الخميس، أكتوبر 29، 2009

الإنسان المهدور - المؤلف: مصطفى حجازي

 

- الكتاب: الإنسان المهدور
- المؤلف: مصطفى حجازي
- عدد الصفحات: 350
- الناشر: المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء/ المغرب
- الطبعة: الأولى 2005



عرض/ إبراهيم غرايبة

يشيع الحديث عن الهدر المالي أو هدر الموارد على تعدد حالاتهما، من سوء إدارة، أو إنفاق على مشاريع غير مجدية، أو وضع اليد على الأموال العامة وسلبها من خلال مشاريع وهمية، إلا أن الموضوع الذي يعنينا هو هدر الإنسان تحديدا، بمعنى التنكر لإنسانيته وعدم الاعتراف بقيمته وكيانه وحقوقه.




يرد في قاموس لسان العرب أن الهدر هو "ما يبطل من دم أو غيره، أي ما يستباح، ويمكن سفحه في حالة من زوال حرمته التي تحصنه ضد التعدي عليه". من ذلك يمكن القول إن الهدر الإنساني حالة ليست نادرة، وإنها تتفاوت من إباحة إراقة الدماء في فعل القتل أو التصفيات كحد أقصى، إلى سحب القيمة والتنكر لها مما يجعل الكيان الإنساني يفقد مكانته أو منعته وحرمته. وقد يتخذ الهدر شكل عدم الاعتراف بالطاقات والكفاءات أو الحق في تقرير المصير والإرادة الحرة وحتى الحق بالوعي بالذات والوجود.

كما يتجلى الهدر الإنساني باعتباره حالة منقطعة الصلة بمسألة الديمقراطية وغيابها، وفي حالة الديمقراطية يكون الاعتراف بكيان الآخر وحرمته مع التنكر لحقوقه في التعبير والمشاركة في التقرير وصناعة المصير, وهكذا فالاستبداد ليس مجرد حجب للديمقراطية أو منع للحقوق، بل هو علاقة مختلفة نوعيا تقوم على اختزال الكيان الإنساني للآخرين إلى مستوى "الرعية" التي تعني لغويا القطيع من الكباش أو الأغنام.

العصبيات والهدر
تتعدد ألوان الهدر بمعنى انعدام الاعتراف بإنسانية الإنسان، وتتخذ أشكالا ومستويات متفاوتة. ويدخل في الهدر حالات الطغيان والاستبداد وحكم المخابرات والعصبيات -على اختلافها- والأصوليات المتطرفة. والعصبية هي جماعة الأقارب المرتبطين ببعض والمتلازمين ببعض، وتولد العصبية مشاعر الولاء والانتماء بين أعضائها، ما يعطيهم ذلك الإحساس بالقوة. ومن ألوان الهدر هنا القبول المشروط الذي تمارسه العصبية على أفرادها، ويذهب القبول المشروط إلى حد يفرض معه على عضو العصبية تمجيدها، وتمجيد أصحاب الشوكة والنفوذ.




القبول المشروط هو المدخل المباشر إلى الاضطراب الذاتي، وسوء التوافق السلوكي سواء بسواء، والقلق والإحباط والاستسلام والتراخي. ويهدف هذا القبول إلى ترسيخ ثقافة الولاء للعصبية، وينتج عن ذلك هدر من نوع آخر كبير الخطورة على صعيد التنمية وبناء المستقبل، فثقافة الولاء على النقيض تماما من "ثقافة الإنجاز" المقابلة. ولم تنهض أمة قديما أو حديثا إلا انطلاقا من ثقافة الإنجاز، فهي التي تحدد الهوية والمكانة والشرف.

ولا يقتصر الهدر الذي تحمله جرثومة البنية العصبية على داخلها فقط، بل على ما هو خارجي، فالهدر الذي تحمله في ثناياه على الصعيد الخارجي يكون في هدر الوطن، وهدر المؤسسات والطاقات المنتجة من خلال دفع طاقات الإنسان إلى توظيفها لخدمة التبعية وتعزيز النفوذ. ويكون الهدر أيضا من خلال الحروب التي تتخذ طابع الوباء الذي يصل حد التصفيات الدموية.

الاستبداد والطغيان والهدر
الاستبداد والطغيان يقوم على القسوة والصرامة والاعتباط والظلم، وتمارسه الحكومات، فردية أو جماعية مع استيلاء السلطة بالقوة. ولا بد أن ينتج عن ذلك الهدرُ في أقسى ألوانه جاعلة من هدر الدم مسألة مبتذلة، مرورا بهدر الكرامات وقيمة الكيان، وهدر العقول وصولا إلى هدر الوعي، حيث تسطو السلطة على الوعي وتحاول امتلاكه من الداخل.


والطغيان يشكل أعلى درجات الاستبداد وأشدها بطشا، فهو تفرد وتسلط، ويقوم على سلب السلطة بالقوة والبغي والظلم، والاستبداد يكمم الأفواه ويقمع المعارضة، إلا أنه يرتضي من الناس الصمت. ما يهم الاستبداد أن يحافظ على زمام السلطة بطرق شتى كلها تتخذ الهدر الإنساني.

ومن طرق هذا النوع ترويض الإنسان الذي يتجاوز السلوك الظاهري إلى تشكيل الإدراك والقناعات والعواطف، بحيث يمثل امتلاك الإنسان من الداخل وعلى مستوى الوعي الذاتي، ويرتبط بالترويض الاقتران الشرطي الذي يتمثل في الربط بين العقاب الصارم والصاعق وبين أي سلوك يمكن أن ينال من سلطة المستبد أو يهدد استبدادها.

على أن بعض حالات الطغيان تتجاوز كل ما سبق من ضبط وتجنب وتعلم اجتماعي، وتعميم في ترويض الناس وصولا إلى غرس حالة الاستسلام المتلبد فيما يعرف باستجابة العجز المتعلم، وهي تشكل السلوك الأساسي المستهدف في عمليات التعذيب السياسي، ويستسلم الإنسان لقدره في نوع من التكيف للصدمة في حالة من الإجهاد الانفعالي، ويصبح ألعوبة طيعة في يد القمع بدون كيان أو مرجعية وهنا يبلغ الهدر الإنساني حالاته القصوى والأكثر وحشية وكارثية.

وهذا الوجه العنيف للترويض لا يمكنه ضمان سطوة المستبد واستتبابها ولا بد من وجه آخر مكمل يتمثل في الترغيب الذي يوازيه وهذا التحكم ناعم وغير مباشر يتمثل في الترغيب وآلياته. والواقع أن التحكم الناعم هو الأكثر فاعلية وتأثيرا على المدى البعيد، وهو قمة التحكم الذي يتجمل بزينة الديمقراطية، مثل الهيئات التمثيلية والانتخابات واللجان، وآليات النفاذ إلى القلوب، حيث يحتل المستبد عالم الناس الذاتي كمصدر إعجاب وافتنان وموضوع تعلق، ما يعزز من هيمنة السطوة ومعها حالة هدر كيان الناس ووعيها وإرادتها واستقلالها.

الهدر في الاعتقال والتعذيب
التصفيات الفردية والجماعية أشد حالات الهدر كارثية، وتمثل التعدي الجذري والكلي على إنسانية الإنسان وإلغاء وجوده المادي، مثل حالات الاعتقال والتغييب والتعذيب، وعدم الاعتراف بإنسانية المعتقل أساسا، فالمعتقل الذي يعذب يجرد من إنسانيته.


ومن أمثلة الهدر التي مورست في مجتمعات ودول تتزين بالديمقراطية، ما يحدث في معتقل غوانتانامو وسجن أبو غريب، فهؤلاء المعتقلون ليس لهم صفة الإنسان وبالتالي ليس لهم قانون يحميهم، فهم حالة خارجة عن كل اعتبار إنساني.

وفي وقتنا الحاضر تم انتشار أساليب التعذيب الخفي التي تتوسل تقنيات تنال من التوازن النفسي، وصولا إلى ضعضعته أو حتى تدميره، ويتخذ التعذيب الجسدي فنونا وأساليب مثل الضرب والعنف الذي يصب على الجسد، والإجهاد الجسدي الذي يصل أقصى درجات احتمال الضحية، والتحكم بالحاجات الأساسية التي تفجر صراعا بين الضحية وجسدها، وكذلك مختلف أشكال تحقير الجسد وصولا إلى تحقير الذات والهوية والكيان. أما التعذيب النفسي فيحاول تحطيم معنويات السجين، وكسر مقاومة التحكم وصولا إلى فرض قناعات جديدة عليه بالقسر.

هدر الفكر والوعي والطاقات
إن هدر الفكر والوعي والطاقات وما يتضمنه من فقدان مناعة يجعل المجتمع جثة هامدة، وبالتالي عديم القدرة على مقاومة الاستبداد والعصبيات.


يعرف الفكر بأنه كل ما يؤثر على الوعي، أي كل ظاهرة نفسية واعية، مما هو مرادف للذكاء والعقل. ويتحالف كل من الاستبداد والعصبيات في ممارسة ألوان من الهدر على الفكر وصولا إلى خلق مناخ موات لفرض سطوتها، لأنها لا تهتم إلا ببناء السلطة والسطوة والتحكم، وليس لديها مشروع حقيقي لإنجاز ثروة صناعية أو زراعية، فالفكر والمعرفة يحتلان وظيفة هامشية، والمكانة المهمة تعطى لعلوم الأمن والمخابرات وتجهيزاتها فهي الأكثر تقدما في عالم الهدر.

ويتحالف كل من الأمن والرقابة السياسية على تنصيب أنفسهم حماة للدين، وأوصياء على عقول الناس لمصادرة الكتب ومحاربتها، وليس الكتب التي تحارب فقط، بل بالمؤلف ذاته، فتهدر كل الأفكار التي تصنع العالم، كما أن هناك التفافا من قبل أنظمة الهدر الفكري على الإبداع، ولا يقتصر الأمر على ذلك بل إن مؤسسات البحث العلمي بدورها تخضع لأهداف السلطة، فتقدم مقاييس الولاء على الكفاءة والأداء، وتكبل العقول الحية.

ويلاحظ بوضوح اليوم في مجال التعليم العالي تردي النوعية على مستوى حداثة المعرفة ومتانة إعداد العقل، وكذلك إسباغ طابع اليقين الإيماني على ما نستورده من معارف.


يمكن القول إن المعرفة هي سبيل بلوغ الغايات الإنسانية مثل الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية، وقد أصبحت محركا قويا للتحولات الاقتصادية والاجتماعية، وثمة رابطة قوية بين اكتساب المعرفة والقدرة الإنتاجية للمجتمع، فالمجتمعات ذات الاقتصاد الأكثر تقدما تقوم على المعرفة الأكثر كثافة.

الشباب والهدر

الشباب هم الكتلة الحرجة التي تحمل أهم فرص نماء المجتمع وصناعة مستقبله، كما أنهم يشكلون التحدي الأكبر في عملية تأطيرهم وإدماجهم في مسارات الحياة الاجتماعية والوطنية والإنتاجية النشطة والمشاركة.


والخصائص العامة للشباب هي التحولات الجسمية والنفسية والعقلية والعاطفية والطموحات والأحلام، على أن العولمة حملت تحولات مستجدة أخذت تعيد تشكيل واقع الشباب، وتصعد من حيوية وحدته وراهنيته، مثل خروج الشباب من الأطر والمرجعيات المجتمعية والتقليدية ويفضل الانفجار الإعلامي والانفتاح على الدنيا.

ولم يعد الكبار يشكلون مرجعية للجيل الصاعد على صعيد المعرفة على الأقل، فهم يتقنون التعامل مع تقنيات المعلومات وقواعدها بل يصبحون مرجعية للكبار فيما يستعصي من أسرار التكنولوجيا.

ويتوزع الشباب بين فئات متعددة، مثل الفئة المترفة التي ربيت على التراخي في الضبط الذاتي ولم تتعلم معنى الجهد وتأخذ كل شيء بدون أن تقدم شيئا، فيهدر كيانها من خلال الإفراط في توفير كل شيء لها، وقد يجعلها ذلك فاشلة في التكيف مع متطلبات الحياة، ويؤدي بها إلى الانغماس في المخدرات والمغامرات لملء حياتها الخالية من المعنى.

أما الفئة المنغرسة التي تحظى برعاية أسرية عالية وحسن توجيه والتي تحظى بفرص التعليم والتأهيل ، فربما تكون هي الأقلية.

وهناك شريحة الشباب الطامح إلى الارتقاء الاجتماعي والحياتي، ويتوسل هؤلاء بالدراسة والتفوق فيها لبناء حياة مهنية وأسرية كريمة، ونواجه هنا نوعا من الهدر يتمثل بالتناقض بين الدرجة العالية من الوعي والطموح من ناحية وتدني الفرص من ناحية أخرى.

وفرص هذه الشريحة من الشباب لا تهدر فقط بعد التخرج، بل تهدر على الأغلب منذ خط البداية، في تواضع نوعية التعليم الذي يتوفر لها وتدني مستواه، فلا يبني معرفة علمية قابلة لأن تتحول إلى مهارة مهنية منتجة.. إنه الجهد المهدور والأمل المهدور.. وتتعامل السلطات مع هذه الشريحة بالوعود التحذيرية مقرونة بالشدة والتهديد بقبضة البوليس الحديدية.

أما الشريحة الأخيرة وهي الأكثر عددا في بلاد الهدر فهي فئة "شباب الظل" المهمشة الفائضة عن الحاجة، وبالتالي المستغنى عنها.. إنها الفئة المهدورة منذ البداية، منذ الطفولة التي يهدر حقها في الرعاية الأسرية عاطفيا واجتماعيا وتحصيلا، وهي الفئة المغبونة ماديا فتحرم من الإشباع الملائم لحاجاتها الأساسية، كما أنها محرومة ثقافيا فتشيع الأمية في الوسط الأسري، ومعها تدني نوعية الحياة ذاتها، لا إدارة ولا تخطيط ولا تبصر بمستقبل، كما أنها تحرم من بناء هوية نجاح حياتي ومهني، وتدخل العالم بشكل متعثر مع تكرار حالات البطالة المتقطعة.

ويهدر الإنسان عموما في بلاد الهدر، وبالتالي فإن هدر الطاقات والكفاءات هو من باب تحصيل حاصل، فليس هناك فعلا إستراتيجيات حقيقية وفاعلة للبناء والنماء والإنتاج، فيتجلى الهدر بكامل حدته لطاقات الشباب وكفاءاتهم.

لقد قدر الخبراء أن خمس قوة العمل الحالية تكفي لسد احتياجات الخدمات رفيعة القيمة التي تحتاج إليها العولمة، وهو ما أطلق عليه بعضهم تسمية "مجتمع الخمس" أي أن خمس الطاقة البشرية ستعمل وتحصل على كل شيء بينما لا تحصل الأخماس الأربعة الباقية إلا على الفتات. ويتمثل نجاح الشركات الكبرى في عمليات الدمج التي تستغني عن العمالة الوطنية، ويتطلب تعظيم أرباح الأسهم في تبني سياسة "تخفيض الكلفة" بتخفيض العمالة والاستعانة بالعمالة الخارجية رخيصة الثمن، ويقع الغرم هنا على الشباب وهو ليس أقل من الغرم على كبار السن.



وتتولى العولمة عملية هدر الوعي من خلال ترويج ثقافة التسلية التي ملأت الثقافة المرئية وقنواتها الكونية، وملأت على الناس المهمشين والمهدورين مجالهم الحيوي بالمباريات الرياضية والفيديو كليب.

وينتج الهدر المتمثل في العصبيات والاستبداد والعولمة من خلال التفاقم المتصاعد ضمن خط الفقر، فيسيطر أقل من 20% من سكان الأرض على ما يزيد عن 80% من ثروتها ومواردها. وبسبب الإجراءات المشددة الهادفة إلى بناء سد في وجه المهدورين تزدهر مافيات تهريب البشر.

إن كل إنسان منذ بداية حياته يرغب في أن يحقق ذاته وأن يكون له دور، أي أن كيانه مشروط باعتراف الآخر به، فهدر الرغبة إعاقة، ومنعها يؤدي إلى إعاقة نزوات الحياة، وبذلك تتعطل المكانة والاعتراف بالقيمة على المستوى الذاتي.

http://www.4shared.com/file/137198600/8fc368b7/_-_.html


.
 
Free Hit Counter Search Engine Submission - AddMe