الخميس، أكتوبر 29، 2009

الإسلام الخارجي" لناجية الوريمي بو عجيلة




قد يكون "الخوارج" من أكثر الفرق جدلاً في التاريخ العربي الإسلامي، ماضياً وحاضرًا، بالنظر إلى ما مثّلوه في "النظريّة" على صعيد الفكر السياسي والديني الذي حملوه منذ نشأتهم، أو "الممارسة" التي اتّسم بها وضعهم لنظريتهم في التطبيق. عندما يُستحضر الخوارج في التاريخ، تُستحضر معهم صورة الرجال المتشدّدين المتزمّتين الممتلئين عنفا الناذرين أنفسهم للحروب. هذه الصورة جعلت كثيرين يربطون بين صورة الحركات الإرهابية الإسلامية في الزمن الحديث بالخوارج، في كون التاريخ يعيد نفسه هذه المرة من خلال تنظيم "القاعدة" وأسامة بن لادن وأبو مصعب الزرقاوي وغيرهم من قادة الحركات الأصولية الحديثة، حتى أنّ تعبير "الخوارج الجدد" بات يلازم الحركات الأصولية الحديثة ذات المنحى العنفي. لم تخلُ القراءات والدّراسات عن الخوارج من الإسقاطات الأيديولوجية، التي استخدمت في سياق الصراعات التي شهدها المجتمع العربي الإسلامي على السلطة، والحروب التي دارت بين القبائل آنذاك، كما لم تخل من تحميل فكرهم وممارستهم بمسائل لم تكن في صلب ما يؤمنون به، في سياق الصراع لأجل القضاء عليهم. تحاول ناجية الوريمي العجيلي في كتابها عن "الإسلام الخارجي" أن تخالف الكثير من السائد حول هذه الفرقة، خصوصا ما ألحق بها من تشويهات، وأن تقدّم قراءة تراها الأقرب إلى الموضوعية، من المنظار التاريخيّ والظروف التي نشأت فيها الفرقة، والإطلالة على فكرها وثقافتها وممارستها، سعياً لإعادة الاعتبار إلى الفرقة، ومحاولة إنصافها في التاريخ وإزالة، قدر الإمكان، بعض التشويهات الأيديولوجية التي لحقت بها، سواء من أصحاب المذهب السنّيّ أو المذهب الشيعيّ. نشر الكتاب ضمن سلسلة "الإسلام واحداً ومتعدّداً" التي يشرف عليها الدكتور عبد المجيد الشرفي، وأصدرته "دار الطليعة" في بيروت.

لا يشذّ الخوارج عن الاندراج ضمن الفرق الدينية التي اعتبرت أنها تحمل الفكر الصحيح عن الدين، وأنّ فكرها ونظرتها الدينية- السياسية- الاجتماعية تحمل الصواب والحقّ، فيما تقيم سائر المذاهب والطوائف في الضلال، مما يصنّفها، وفق منطقها، في كونها "الفرقة الناجية". اعتبرها "السنّة" مجموعة انشقّت عن دائرة الحقّ لكونها خرجت عما أجمعت عليه الأغلبية، خصوصاً في ما يخصّ الموقف من الخليفة "الشرعيّ"، وذهبت كتابات أخرى إلى القول بأنّ اسمهم انبثق من اعتبارهم خارجين على عليّ بن أبي طالب، وأطلق خصوم الخوارج عليهم لقب "المارقة". لكنّ أصحاب الفرقة كان يحدّدون أنفسهم بأنهم الطائفة التي تخرج للغزو في سبيل الله، وأنهم "الشُّراة" الذين باعوا أنفسهم لله طمعاً في الحصول على الجنّة في الآخرة. لكنّ الثابت بين الأخصام أو المؤيّدين هو اعتبار الخوارج أوّل الذين رفعوا شعار "لا حكم إلا لله" أثناء التحكيم الذي جرى في سياق النزاع بين عليّ ومعاوية.

في سعيها لوضع نشأة الخوارج ضمن الإطار التاريخيّ المتّصل بتطوّر "الدولة" الإسلامية ولتفسير صعود هذه الفرقة، تشير الكاتبة إلى "أنّ التصدّع الذي حدث في بنية الدولة الناشئة-، والذي لا يعود الخلاف بين عليّ ومعاوية ثمّ بين أتباع عليّ فيما بينهم في مسألة التحكيم، أن يكون وجهاً من وجوهه- هو مؤشّر على معطيات اجتماعية وثقافية متنافرة كانت تعمل عملها منذ التجربة السياسية الأولى التي قادها الرسول، ثم تبلورت أكثر فأكثر مع تجارب الخلفاء من بعده…الخلاف الذي حصل بين المسلمين بمناسبة التحكيم ليس سببا لظهور التوجه "الخارجي"، بل هو المناسبة التي تبلور فيها هذا التوجّه وبدأ يتّخذ الأشكال السياسية والثقافية للوجود المؤسّسي". ممّا يعني أنّ الخوارج كانوا لا يرون مسألة رفض التحكيم سوى واحدة من عناصر تكوينهم الذي يتجاوز هذه الحادثة العسكرية إلى طرح أشمل يتناول الدين والسياسة والاجتماع. وهو أمر يدفع مباشرة إلى التوقف أمام ما يراه الخوارج "جوهريّا" في فكرهم وممارستهم.

لا ينكر معظم دارسي الفكر "الخارجي" مركزية صراعهم مع السلطة الأموية، وكون النظرة التشويهية التي ألصقت بهم قد دبّجها الأمويون عنهم، وعلى الأخصّ منها مقولة التطرّف والعنف ورفض الآخر. كما لا ينكر أحد أنّ الممارسة "الخارجية" كانت في حقيقتها عنفية ضدّ الآخر، لكنّه عنف أتى جواباً عن الاضطهاد الذي عانوه على يد السلطة الأموية وحكامها في المناطق العربية- الإسلامية، وردّة فعل على جور سلطة بعيدة عن أحكام الدين. في ما يمكن اعتباره من الفكر السياسي للخوارج، يمكن التوقّف أمام قضيتين، الأولى تتّصل بمقولة شدّد عليها هذا الفكر حول أنّ "الإمامة من الرأي" وليست من التنزيل أو السنّة، مما يعني، وفق الخطاب الخارجي، "إبعاد المبررات الإلهية في المجال السياسي، وحصره في العمل البشري وفي المعطيات التاريخية المصاحبة"، وهي وجهة تسمح بتغيير السلطة إذا ما انحرفت عن جادّة الصواب، وتبرّر الدعوة إلى الخروج عليها، بل أكثر من ذلك يرى الخوارج "واجب الخروج" على الحكام المستبدين وغير العادلين.

أما المقولة السياسية الثانية التي تنسب إلى الخوارج، فهي اتّهامهم برفض شرعيّة الحكام، واعتبار أن "لا حكم إلا لله"، وهي مقولة أثارت جدلا في القديم من الزمن والراهن منه، الأساس "الأيديولوجي" للفكر الأصولي، والتزمّت الذي افتتحه ابن تيمية وتكرّس لاحقاً على يد أبي الأعلى المودودي، ثم في فكر حركة الإخوان المسلمين خصوصاً في كتابات سيد قطب، وأخيراً في ما تدّعيه الكثير من التنظيمات الأصولية المتطرّفة أنّ "كفاحها ونضالها" إنما يهدفان إلى وضع هذا الشعار موضع التطبيق وإقامة الدولة الإسلامية العادلة من خلال تطبيقه. ترفض الكاتبة ما جرى تحميله لهذا الشعار من أحكام سلبية، وتذهب في هذا المجال إلى القول "أنّ رفع شعار "لا حكم إلاّ لله" ورفض تدخّل البشر في ما سبق فيه حكم إلهيّ صريح الدلالة، والحرص على بناء الخطاب بناءً ثنائيا تتناظر فيه المعاني البشرية والمعاني الإلهية، هي منطلقات نظرية يمكن تحميلها دلالات شتّى إن عزلناها عن سياقها التاريخي أوّلاً ثم عن سياق المنظومة الفكرية التي تنتمي إليها ثانياً… العلاقة القائمة بين المعنى الإلهيّ والمعنى البشريّ هي علاقة وظيفية بموجبها يتطابق ما تريده هذه الفئة مع ما نصّ عليه الله.. المنطلق فيها ليس المطالبة الاعتباطية الدوغمائية بتطبيق النص، بما هو نص مقدس ينبغي أن يطبّق وكفى، بل هو تمثيل هذا النصّ لعوامل متعالية لحركة اجتماعية تريد أن تكون". إنّ المدقق في الفكر "الخارجي" يمكنه أن يلحظ تشدّدهم في تكريس سلطة العقل سبيلاً إلى فهم النص الديني ووضعه موضع التنفيذ؛ بما يتوافق والظروف التاريخية المتطوّرة والمتحوّلة. كما أنّ هذا الفكر يقبل مخالفة حكم صريح وارد في النص إذا ما اقتضت المصلحة العامة اللجوء إلى هذه المخالفة، وهو أمر يزيل عن الخوارج مقولة التطرف الديني والتشبث بظاهر النص ومنع الاجتهاد فيه.

على صعيد الفكر الكلامي، اشتهر الخوارج "بإخضاع كلّ المنطلقات النصية للنظر العقليّ الذي يسعى إلى إعادة النظر في الأسس التبريرية لاستمرار القوى التقليدية في هيمنتها على المجتمع"، وهو أمر دفع بهم إلى اعتبار العمل من الأركان الأساسية في الإيمان الديني المتّصل وثيقا بالعقيدة، وهو ربط يطلّ على البعد الاجتماعي العمليّ للإسلام. في مقولة الجبر والاختيار، تساءل الخوارج عن الوسيلة التي تجمع بين "عقيدة تؤمن بأنّ الله خالق لكلّ شيء وقادر على كلّ شيء ومقدّر لكلّ شيء، وحرية الإنسان في أفعاله المشرّعة لمحاسبته أولاً". وجادل الخوارج في قضية مركزية واجهت الفكر السياسي والديني للفرق الإسلامية، وهي المتّصلة بخلق القرآن، الذي شكّل أحد العناصر الهامّة في الصراع السياسي والاجتماعي، حيث كان الإصرار السنّيّ القائل بأقدمية القرآن واحدة من وسائل استخدام النص في التوظيف السلطوي ضدّ الخصوم، فيما اعتبرت القوى المهمّشة أنّ القول بنظرية خلق القرآن هو إحدى وسائل النضال من جانبها لمنع توظيف النصّ من قبل السلطة الحاكمة. على أيّ حال، يكاد يكون هناك إجماع على أنّ الخوارج قالوا بخلق القرآن، وأنّ كل نتاجهم ودفاعهم عن العقل والاجتهاد إنما يصبّ في هذه الوجهة.

أمّا في الجانب الأصوليّ المتّصل بالمنظومة الفقهية الخاصة بالتشريع ووضع القوانين، فقد كانت للخوارج وجهة نظر تتوافق فيها مع السنّة "في حدّ الكتاب، وهو الذي أنزله الله على محمّد، الذي لا يأتيه الباطل"، وتركيز الخطاب الخارجي على المصلحة العامّة للمسلمين، وإنّ "ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن". وتناول الفكر الأصولي الخارجي قضية الحديث النبويّ الذي رفعته السلطة إلى مستوى القرآن، فرفضوا هذا التوظيف له، بل ذهبوا إلى أنّ صحة الحديث هي بمقدار توافقه مع النصّ القرآنيّ. أمّا في الخطاب السائد حول الرفع من مقام الصحابة وتنسيب العدالة إلى ممارستهم، فقد اعتبر الخوارج أنّ مسألة عدالة الصحابة مبالغ فيها، وأنهم مثل سائر البشر تنتفي القدسية عن أعمالهم.

رغم أنّ القراءة الموضوعية غير الأيديولوجية ضرورة علمية وتاريخية لفرقة الخوارج، إلاّ أنّ سلوكهم العمليّ وأفكارهم حول الدين والمجتمع تظلّ تحمل الكثير من التناقض حول المقولة ونقيضها، وهو أمر يمكن تفسيره بأنّ الخوارج لم يكونوا مجرّد فرقة كلامية، على غرار عدد كبير من الفرق التي شهدها التاريخ الإسلامي، بل كانوا فرقة سياسية وعسكرية تعتمد النص الدينيّ، ودقّت أبواب السلطة وحكمت في مناطق متعدّدة، وهي أمور تجعل فكرها متلوّناً بطابع الصراعات والقوى المتحالفة معها أو المتخاصمة معها. لكنّ الثابت أنّ الخوارج، وعلى غرار السلطة الرسمية، سعوا إلى استخدام النص الديني في صراعهم السياسيّ والاجتماعي مع أخصامهم، وأدخلوا تفسيرات وحججاً بما يتناسب مع طبيعة هذه الصراعات. لذا لا تقع استعادة الإضاءة على الخوارج وفكرهم خارج الواقع الإسلامي الراهن، حيث يشهد مغالاة شديدة في استحضار النص الديني وتوظيفه راهنا في الحراك السياسي والاجتماعي، والتركيز على جانب آيات العنف فيه كقاعدة أيديولوجية لممارسة الحركات الأصولية المتطرفة.


 
Free Hit Counter Search Engine Submission - AddMe