* حينما أتت فترة الستينات، التي شهدت حركة ترجمة مزدهرة، انفتحت على آفاق الأدب الأمريكي لم يشغلها غير الرموز الأدبية الحية، التي كانت تستحوذ اهتماماً واسعاً في عواصم الفكر والأدب، مثل «همنجواي» و«شتاينبك» بينما كان «باسوس» قد انحدر الى دائرة الظل، وكتاباته خرجت من إطار الرواية الى السرد التاريخي، كما ضاعت منه قدرته على النقد الاجتماعي البنّاء. وضاعت منه بالأهم قدرته النفاذة على تحليل حركة التاريخ انتقل من حلم الثورة الى حلم النموذج الأمريكي والنمط الأمريكي والديمقراطية الأمريكية «مبادىء الجمهوريات الوليدة التي عفا عنها الزمن» فيما أطلق عليه «الفترة الجيفرسونية» في حياته. واعتبر النقاد هذا تنازلاً نقل «باسوس» من اليسارية الى المحافظة. ومن الرواية الى التاريخ. ومن ثائر على المجتمع الى نمط في المجتمع. ومن موهبة حية الى موهبة ميتة.
* لكن رواية «أمريكا» تظل بلا شك أعظم رواياته على الإطلاق، بل من أعظم الروايات في الأدب الأمريكي المعاصر. استطاع «باسوس» من خلالها أن يقدم شكلاً جديداً من أشكال الرواية وأن يوظف الرواية في تحليل مجتمع هائل ومتنوع كالمجتمع الأمريكي. وان يقدم في النهاية وثيقة تاريخية تشهد على أهم فترة من فترات التاريخ الأمريكي تلك الفترة التي خرجت فيها أمريكا من عزلتها لتنفتح على العالم وتفتح شهيتها لأسواق العالم وتفرض وجودها على سياسات العالم. وباختصار تخرج من مرحلة نموها الرأسمالي الى مرحلة الامبريالية التي كانت لا تزال سمة من سماتها منذ مطلع القرن العشرين.
* في بداية الثلاثينات «فترة الكساد الكبير في تاريخ أمريكا» أخرج «جون دوس باسوس» أول أجزاء «ثلاثية أمريكا» «خط عرض 42» الخط الذي ينصف أمريكا.. الخط المحوري الذي تنبثق من حوله كل الشخصيات في الرواية. وتبعه الجزء الثاني بعنوان «1919م» ثم الجزء الثالث «1936م» بعنوان «الثروة» ليرسم لنا في الثلاثية بمجملها لوحة بانورامية هائلة للمجتمع الأمريكي منذ مطلع القرن حتى منتصف العشرينات تقريباً.
* استخدم «باسوس» من الوجهة التكنيكية أسلوباً جديداً يساعده على رسم الصورة كاملة بكل أبعادها الزمانية والمكانية.
* استخدم اسلوب السرد القصصي لبضع شخصيات منتقاة من الواقع الأمريكي. وعلى خلاف معاصريه «كهمنجواي» و«فتز جرالد» كان باسوس اقرب الى شخصية رجل الشارع العادي. وهو لا يكتفي بالسرد البارد الذي تشيع فيه روح السخرية وإنما يلجأ الى أسلوب آخر أقرب ما يكون الى المونتاج السينمائى. ويقوم بين الحين الآخر بعملية قطع ليقدم لنا الجريدة السينمائية وعين الكاميرا. وإذا كانت الجريدة السينمائية ترسم لنا الجو العام بصورة موضوعية، فإن المؤلف باعتباره معاصراً لتلك الأحداث يدلي لنا بشهادته أو وجهة نظره الذاتية من خلال عدسة أو «عين الكاميرا» وهي أشبه ما تكون بمونولوج قصير في صياغة فنية مركبة، يميل الى الغموض ويذكرنا بأسلوب الروائى الايرلندي «جيمس جويس».
* لقد وضع «باسوس» في روايته هذه خلاصة تجربته الواسعة، ملتزماً بالواقعية البالغة في الوصف فامتلأت روايته بأسماء المدن والشوارع والميادين والفنادق والحانات والأطعمة والخمور وبمختلف اللهجات الأمريكية، مع استخدام مفردات الفرنسية والأسبانية والألمانية.
* هذا ما يؤكد أن انتماء «باسوس» الى أمريكا لم يكن انتماءً غيبياً فارغاً وإنما كان انتماءً الى واقع حي أراد أن يقدم له عملاً يضارع في صدقه الفني صدق المرآة.
-